شكرا للشيخين
بقلم الشيخ سلمان العودة
ربما خطر ببالي حينا؛ أن المرء كلما صفا وتجرّد وأحكم لسانه من الاندفاع والطّيْش؛ كان أقرب إلى السلامة من الناس ، وأَدْعَى إلى أن يتآلفوا عليه، ويقلّ حوله خلافهم ..
ولا زلتُ أدرك أن قدراً من ذلك هو صحيح ، فإن من صحّ جنانه فَصُحَ لسانه ، كما قال بعض السلف..
وفي صحيح السنة : « الْمُؤْمِنُ مَأْلَفَةٌ وَلاَ خَيْرَ فِيمَنْ لاَ يَأْلَفُ وَلاَ يُؤْلَفُ » كما عند أحمد والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين.
لكن مما يحسن أن يضاف إلى هذا المعنى حتى تكتمل صوابيته؛ أن المرء كلما اتّسعت دائرته اختلف الأمر بالنسبة إليه ؛ لأن الدائرة التي تتعامل معه ، رضا وقبولا ، أو تردداً أو شكاً ، أو رفضاً واتّهاماً ، هي دائرة واسعة ، ربما تمتدّ لتشمل البشرية كلها جمعاء ، كما تراه في شأن مشاهير المصلحين والمؤرخين ، وعلى رأسهم أنبياء الله ورسله, صلوات الله وسلامه عليهم .
وقد سنح لي أن أقرأ في سيرة الشيخين المقدَّمَيْن لدى المسلمين ؛ أبا بكر, و عمر -رضي الله عنهما- ، فرأيت من كمال الإخلاص واليقين ، كما في الأثر عن المزني : " مَا سَبَقَكُمْ أَبُو بَكْرٍ بِفَضْلِ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ وَلَكِنْ بِشَيْءِ وَقَرَ فِي قَلْبِهِ " ..
وكمال العلم والمعرفة كما في رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى على عمر قميصاً يجرّه ، ورآه يشرب فضل النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من اللبن ، وأوّلَ ذلك بالعلم والدين .
وهم طليعة الأصحاب الذين أَذِن الله في سمائه أن يكونوا خلصاءه في حياته ، وجيرانه في قبره بعد رحيله ، ليكون ذلك شاهداً ماديًا قطعياً لكل ذي عقل وإنصاف أنهم وزراؤه وخاصته من أصحابه ، وليعلم كل متأمل أن من ازدرى أو انتقص فإنما يزدري بمقام من اختارهم وفضّلهم ؛ لأن قربهم من مربيهم وهاديهم عليه السلام ، هو ضرورة تاريخية ومشاهدة واقعيه .
وإذ نقرأ في سيرهم تجرّدهم من حظوظ النفس ، وكمال إحسانهم إلى الخلق بكل مقدورهم؛ من علم أو مال أو جاه أو قوة ، وتفانيهم في ذلك ، مع التجافي عن المصالح الآنية ، والترفّع عن الإرادات الأنانية ، وإيثار العفو عن الناس من القريب والبعيد ، والموافق والمخالف ..
ومع ذلك لم يسلم جنابهم من قادح ! ولعلك حين تقرأ بعض ما سطرته أقلام مسمومة ، وأياد موتورة في حقّ الشيخين عليهما الرضوان والسلام ، تهون عليك الدنيا ، وتعلم أن جمعها شتيت وكثيرها قليل ، وأن الله ادّخر لأوليائه من رفيع المقامات في الآخرة مالا يبالون معه ما أصابهم من الدنيا ، وربما ودّ أهل العافية أن لو قُرضوا بالمقاريض في جنب الله .
إن الذي يقرأ كتباً مسطورة ، ويعلم أن مجلدات ضخمه طبعت ووزعت ودرست في مدارس ، ولُقّنت لأجيال ، مليئة بالذم والعيب والاتهام بالمؤامرة والتخطيط لاقتناص فرص الدنيا ، أو السيطرة على الحكم ، أو الإعداد لاغتيال النبي -صلى الله عليه وسلم- أو بعض خاصّته من قرابته, بقدر ما يرفض هذه الصورة السوداوية للتاريخ ، وخاصة لأفضل حقبه ومراحله ، إلا أنه يدرك أن سنّة الله في عباده أن يكون من كمال أجر السابقين وتوبتهم؛ أن يقيّض لهم حتى بعد موتهم من يؤذيهم ويبهتهم بما هم منه براء ؛ ليكون ذلك درساً لكل سالك للإسلام من الناس ، ولو كنت في عيار أبي بكر وعمر ، فشكراً لشَيْخيْنا على هذه الدروس العملية ، وجزاهم الله عنا أفضل الجزاء وأوفاه .
والمؤكد أن اختلاف الألسن بفحش القول في حق الأفاضل هو أثر عن "الاختلاف" ، فالاختلاف يغرز لدى المتعصبين "التصنيف" ، هذا مع ، وهذا مع ، ولا خيار ثالث سوى هذين ، فأما من كان معي فهو مَلَاك في صورة إنسان ، معصوم اعتقاداً أو عملاً , وأما من كان ضدي فهو شيطان مارد ، وأفعاله لا تقع إلا فاسدة ، وهذا دأب القلوب التي ران عليها الجهل, وغلّفها الهوى وأحاطت بها العصبية .
ولهذا قيل: إن الأخلاق إنما تبدأ عند الاختلاف ، فأما مع التوافق فالتصنع والانسجام هو سيد الموقف ..
ولقد كان مما علمونا - لو تعلمنا - رضي الله عنهم ، كيف يكون المرء مترفعاً ، عفّ القول ، حسن الظن بالآخرين ، يتّهم نفسه قبل أن يتهم غيره عند الاختلاف :
أتانا أن سهـلاً ذمّ جهـلاً *** أموراً ليس يدريهن سهلُ
أموراً لو دراها ما قلاها *** ولكن الرضا بالجهل سهلُ
http://www.islamtoday.net/salman/artshow-28-112850.htm